الإنفاق في القرآن

من ويكي باسخ
المسألة

ما هي مكانة وأهمية وآثار الإنفاق في القرآن الكريم؟

يُعدّ الإنفاق أحد أبرز العناصر المحورية في الدين الإسلامي، وقد تكرّر الحثّ عليه في القرآن الكريم، حيث وُعِد المنفقون بثواب عظيم. من آثار الإنفاق: تحقيق التزكية والطهارة للنفس، الوصول إلى مقام البرّ والإحسان، ورفع الفقر والمعاناة عن المجتمع. يُصنَّف المنفقون في القرآن الكريم ضمن المؤمنين، المتقين، والمحسنين، إذ يُعدّ الإنفاق صفة أساسية للمسلم إلى جانب الإيمان بالغيب، الصبر، الإحسان، وإقامة الصلاة، وهي صفات تُؤهّل أصحابها لنيل وعد الله بالجنة.

وبحسب القرآن الكريم، فإن المستحقين للإنفاق يشملون: الفقراء، المحرومين، الأيتام، أبناء السبيل، والمساكين وغيرهم من المحتاجين.

فضل وأهمية الإنفاق

الإنفاق يعني بذل المال في سبيل الله ممّا رزق الله عباده.[١] يُعدّ الإنفاق من أهمّ المفاهيم الأخلاقية وأعظم الأعمال فضيلةً التي أكد عليها القرآن الكريم مراراً وتكراراً. وعد الله المنفقين بأجر عظيم وجنات الخلد[٢]، ووعد بمضاعفة المال الذي يُنفق في سبيله.[٣] كما بيّن أنّ المنفقين لن يخافوا ولن يحزنوا.[٤] وقد وردت في القرآن الكريم مئات الآيات التي تتحدث عن مساعدة المحرومين بصور مختلفة، مثل الزكاة، الخمس، الصدقة، الإنفاق، القرض الحسن، الإطعام، الإيثار، وغيرها. كذلك وضع القرآن الكريم شروطًا محددة تتعلق بنوع الإنفاق ومقداره، وحال المنفقين والمستحقين.[٥]

أمر الله تعالى بالإنفاق في العديد من الآيات[٦]، بل خاطب عباده بأسلوب معاتب، فقال: لماذا لا تنفقون في سبيل الله رغم أنّ كل شيء ملك له؟[٧]

للإنفاق بُعدين رئيسيين، عبادي واجتماعي:

  • من الناحية العبادية، يُرقّي الإنسان معنويًا ويرفعه إلى درجات عالية من القرب من الله.
  • من الناحية الاجتماعية، يُسهم في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع.

وفي آيات عديدة، يُذكر الإنفاق كصفة أساسية للمحسنين والمتقين، ويحثّ الله عليه كجزء من تحقيق "حقوق الناس" و"حقوق الله"، وهما من الركائز الأساسية في الإسلام.[٨]

وقد وعد الله بأن كل ما يُنفق في سبيله سيُعوّض.[٩] وشبّه القرآن الكريم الإنفاق ببذرة تُنبت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة.[١٠] وقد أشار المفسرون في تفسير هذه الآيات إلى أنّ الإنفاق في سبيل الله تجارة رابحة، لأن الله قد تكفّل بتعويضه.[١١] ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(آل عمران:۹۲)

التزكية

التزكية والتطهير من أبرز آثار الإنفاق، كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ(الليل:۱۸). فسّر العلماء التزكية بأنّها إشارة إلى الإخلاص وقصد القربى إلى الله، سواءً أُخذت بمعنى النموّ الروحي والمعنوي أو تطهير المال، إذ إنّ كلمة "تزكية" تحمل معنيين: "النموّ" و"التطهير". كما يقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ(التوبة:۱۰۳). فالزكاة تطهّر النفس وتنمّيها، وتجلب الطمأنينة للمؤمنين.[١٢]

بحسب القرآن الكريم، الإنفاق يساهم في محو السيئات والذنوب[١٣]، ولن يبلغ الإنسان درجة البرّ إلا إذا أنفق ممّا يحبّ.[١٤] وهذا لأن الإنفاق يُحرّر قلب الإنسان وروحه من قيود التعلّق بالدنيا، ما يجعله أقرب إلى الفلاح.[١٥]

يرى الشهيد مطهري أنّ للإنفاق دوراً إنسانياً عميقاً، إذ يجعل الإنسان يتخلّى عن بعض ما يملكه، متقمّصاً بذلك صفة الرحمانية الإلهية، ما يسهم في بناء شخصيته الأخلاقية.[١٦] وأوضح صاحب "مجمع البيان" أنّ المنفق يسعى ليكون نقيّاً عند الله، دون أن يتطلّع إلى رياء أو سمعة في عمله.[١٧]

القضاء على الفقر

من أوسع المواضيع الاقتصادية في القرآن الكريم هو الإنفاق، الذي ورد ذكره بأكثر من ثمانين مرة بألفاظ مختلفة، تحثّ المسلمين على بذل جزء من النعم الإلهية لمساعدة الآخرين.[١٨]

أحد الأهداف الرئيسية للإنفاق في الإسلام هو القضاء على الفقر. يرى العلماء أنّ ثقافة الإنفاق تعكس اهتمام الفرد باحتياجات الآخرين، وحرصه على معيشة أبناء مجتمعه. إذا تحققت هذه الثقافة كما أمر بها القرآن، فإنّ الفقر، الذي يُعدّ من أكبر المشكلات البشرية، سيشهد تحسناً كبيراً وربما يزول تماماً. ويشير المفسرون إلى أنّ الإسلام يهدف إلى إزالة الفجوات غير العادلة بين الطبقات الغنية والفقيرة الناتجة عن الظلم الاجتماعي. ولتحقيق هذا الهدف، وضع الإسلام برنامجاً واسعاً، يشكّل الإنفاق جزءاً أساسياً منه.[١٩]

الإحسان إلى الآخرين والسعي للقضاء على الفقر من أبرز مصاديق الأعمال الصالحة التي أكد عليها القرآن الكريم. وقد توعّد الله بعذابٍ أليم من يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيله.[٢٠] وأدانت التعاليم الإسلامية بشدة اكتناز الثروات ومنعت هذا السلوك، وعدّت المتصرّفين فيه بشكل غير مسؤول منبوذين ومذمومين.[٢١]

أوصاف المنفقين

المنفقون في القرآن الكريم هم من المتقين الذين يتميزون بصفات رفيعة، كما ورد في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(آل عمران:۱۳۴).

القرآن يصف المنفقين بأنهم متقون، محسنون[٢٢]، مؤمنون[٢٣]، ومفلحون[٢٤]، وغير ذلك. هؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله.[٢٥] وقد عدّ القرآن الكريم الإنفاق أحد أقسام البرّ[٢٦]، كما ورد في قوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ(آل عمران:۹۲). وفي سورة التغابن (الآية 16)، أُشير إلى المنفقين بأنهم "مفلحون"، وسمّى الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم "فائزين".[٢٧] كما جاء في سورة آل عمران أنّ المنفقين ينفقون في اليسر والعسر، والله يحب هؤلاء.[٢٨] ومن صفات المتقين أيضاً أنهم يجعلون في أموالهم حقاً معلوماً للمحرومين والفقراء.[٢٩] وفي وصف المتواضعين، يقول القرآن إنهم صابرون، مقيمون للصلاة، وينفقون مما رزقهم الله.[٣٠] أما في الحديث عن صفات المؤمنين، فقد وصفهم بأنهم الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وهؤلاء هم الصادقون.[٣١] القرآن الكريم يعتبر الإنفاق ركناً من أركان الإيمان، وقد بلغ من الأهمية والعظمة أنه وضع في مصاف القضايا الأساسية للإسلام.[٣٢]

المستحقون للإنفاق

يشير القرآن الكريم إلى الفئات المستحقة للإنفاق مثل المحتاجين، الفقراء، المساكين، الأيتام، المحرومين، وأبناء السبيل، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(التوبة:۶۰). وقد فرض القرآن بعض أنواع الإنفاق كزكاة المال، والخمس، والكفارات المالية، وأنواع الفدية كواجبات شرعية. بينما جعل أنواعاً أخرى كالصدقات، الوقف، إسكان المحتاجين، الوصايا، والهبات من الأمور المستحبة.[٣٣]

كيفية الإنفاق

يُثني القرآن على جميع أنواع الإنفاق سواء أكان علنياً أم سرياً[٣٤]، مع تأكيده على أفضلية الإنفاق السري، حيث يقول تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ(البقرة:۲۷۱). المفسرون يرون فوائد متعددة للإنفاق العلني والسري. فالإنفاق العلني يشجع الناس على الاقتداء بهذا العمل الصالح، بينما يتميز الإنفاق السري بأنه يخلو من الرياء والمنّ، ويجنب الفقراء الشعور بالإهانة، مما يعزز الآثار الروحية والمعنوية للمنفق.[٣٥]

في ثقافة القرآن الكريم، يُعتبر السمو الروحي وتحقيق رضا الله الغاية الرئيسية من الإنفاق. النية هي ما يضفي المعنى الحقيقي على العمل، وأي إنفاق يصاحبه رياء يُعد عديم القيمة.[٣٦] طالما كان الإنفاق خالصاً لوجه الله وليس طلباً للجاه أو التفاخر، فإنه يُعد من الأعمال الصالحة.[٣٧]

كما ينبغي أن يكون هدف الإنفاق هو السعي لرضا الله وحده.[٣٨] [٣٩]، بعيداً عن الرغبات الدنيوية أو الأهداف النفسية[٤٠] أما الإنفاق المصحوب بالمنّ والأذى، فإنه يُفقد صاحبه أجره[٤١]، كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ(البقرة:۲۶۴). فالإنفاق النقي الخالي من المنّ والأذى يظل أجره محفوظاً عند الله تعالى.[٤٢]

المصادر

  1. معيني، محسن، «الإنفاق»، دائرة معارف القرآن والقرآن پژوهي، بإشراف بها الدين خرّم شاهي، طهران، دوستان، ناهيد، 1381ش، ج 1، ص 313.
  2. سورة الحديد، الآية 11. سورة الأنفال، الآية 60. سورة التوبة، الآية 21.
  3. سورة البقرة، الآية 261. سورة القصص، الآية 54.
  4. سورة البقرة، الآية 274.
  5. قرائتي، محسن، تفسير نور، طهران، مركز فرهنگي درس‌هايي از القرآن، 1388ش، ج 9، ص 461.
  6. سورة البقرة، الآية 195.
  7. سورة الحديد، الآية 10.
  8. طباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ترجمة: محمد باقر موسوي همداني، قم، دفتر انتشارات إسلامي، 1374ش، ج 2، ص 587.
  9. سورة البقرة، الآية 272. سورة فاطر، الآية 29. سورة سبأ، الآية 39.
  10. سورة البقرة، الآية 261. سبحاني، جعفر، «الأمثال الجميلة في القرآن» مجلة درس‌هايي از مكتب إسلام، العدد 9 (80).
  11. مكارم شيرازي، ناصر، تفسير نمونه، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1371ش، ج 18، ص 117.
  12. مكارم شيرازي، ناصر، تفسير نمونه، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة العاشرة، 1371ش، ج 27، ص 82.
  13. سورة البقرة، الآية 271.
  14. سورة آل عمران، الآية 92.
  15. مصباح يزدي، محمد تقي، رستگاران، قم، مؤسسة آموزشی و پژوهشی إمام خميني (ره)، بي‌تا، ج 1، ص 59.
  16. مطهري، مرتضي، مجموعة آثار، طهران، صدرا، 1390ش، ج 26، ص 126.
  17. طبرسي، فضل بن حسن، مجمع البيان، ترجمة: أحمد بهشتي وآخرون، طهران، فراهاني، بي‌تا، ج 27، ص 131.
  18. منتظري، حسين علي، إسلام دين الفطرة، طهران، سايه، 1385ش، ج 1، ص 574.
  19. مكارم شيرازي، ناصر، تفسير نمونه، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1371ش، ج 2، ص 316.
  20. سورة التوبة، الآية 34.
  21. منتظري، حسين علي، إسلام دين الفطرة، طهران، سايه، 1385ش، ج 1، ص 576.
  22. سورة البقرة، الآية 195.
  23. سورة البقرة، الآية 254.
  24. سورة التغابن، الآية 16.
  25. سورة البقرة، الآية 3.
  26. سورة البقرة، الآية 177.
  27. سورة التوبة، الآية 20.
  28. سورة آل عمران، الآية 134.
  29. سورة الذاريات، الآية 19.
  30. سورة الحج، الآيتان 34 و35.
  31. سورة الحجرات، الآية 15.
  32. «الصدقة والإنفاق في الآيات والروايات»، موقع مكتب الأستاذ حسين أنصاريان. تاريخ الزيارة: 12 مهر 1402ش
  33. طباطبائي، محسن، تفسير الميزان، ترجمة محمد باقر موسوي، قم، دفتر انتشارات إسلامي، 1374ش، ج 2، ص 587.
  34. سورة البقرة، الآية 284.
  35. طباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ترجمة: محمد باقر موسوي همداني، قم، دفتر انتشارات إسلامي، 1374ش، ج 2، ص 610.
  36. مجموعة من المؤلفين، «الإنفاق»، دائرة المعارف الكبرى الإسلامية، طهران، مركز دائرة المعارف الكبرى الإسلامية، ج 10، ذيل المدخل.
  37. مدرسي، محمد تقي، أحكام العبادات، قم، انتشارات محبان الحسين (ع)، 1381ش، ج 1، ص 523.
  38. سورة البقرة، الآية 265.
  39. محسني، محمد آصف، أفق أعلی، كابل، رسالات، 1396ش، ج 3، ص 196.
  40. مطهري، مرتضی، مجموعة آثار، طهران، صدرا، 1390ش، ج 22، ص 187.
  41. مكارم شيرازي، ناصر، تفسير نمونه، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1371ش، ج 2، ص 318.
  42. سورة البقرة، الآية 262.