ومن يتوكل على الله فهو حسبه
في أي آية ورد قوله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، وما المقصود منه؟
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، هو جزء من الآية ٣ من سورة الطلاق، قيل في تفسير هذه العبارة أن من المتوكل على الله يترك نفسه وأهواءها ويقدِّم إرادة الله على إرادته، فمثل هذا الشخص يكون الله كافيه وضامنه؛ وعندها يكون كل ما يتمناه العبد مراداً لله أيضًا.
وقد ذكر المفسرون أن سبب تعبير الآية بـ "فَهُوَ حَسْبُهُ" -أي هو كافيه- هو أن الله هو السبب النهائي حيث تنتهي إليه جميع الأسباب، فإذا أراد شيئًا فإن ذلك الشيء يتحقق بتمامه ويصل إلى المراد دون أن تتغير إرادته تعالى، وأما الأسباب الأخرى التي يلجأ إليها الناس لقضاء حوائجهم، فإن سببيتها تأتي من الله، وهم لا يملكون إلا ما أعطاهم إياه.
متن الآية
﴿ | وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا
الطلاق:۳ |
﴾ |
بيان الآية
في ختام الآية الثانية من سورة الطلاق جاء قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾، أي أن من يتّق الله ويجتنب معاصيه فإن الله سيُهيِّئ له مخرجًا من ضيق الحياة، ثم تتابع الآية الثالثة من السورة موضحة: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
ذكر المفسرون أن الله يُنذر النساء والرجال والشهود ألا يخافوا من صعوبات طريق الحق، وأن يلتزموا بالعدل، ويطلبوا منه تعالى فتح الأبواب المغلقة، لأنه قد ضمن أن يفرج عن المتقين ويرزقهم من حيث لا يخطر ببالهم، كما أكد أن من يتوكل على الله فلن يُضيّعه، وأن الله قادر على الوفاء بهذا الوعد، صحيح أن هذه الآيات نزلت في سياق الطلاق وأحكامه، لكن معناها عام يشمل كل مواقف الحياة، فهي بشرى من الله لجميع المتقين والمتوكلين بأن رحمته ستدركهم في النهاية، كما تؤكد أن كل المصاعب التي تواجه الإنسان لها قدر ومصلحة ونهاية محددة، فلا ينبغي له أن يجزع عند وقوعها أو يشكو، أو يلجأ إلى أساليب غير شرعية لحلها، بل عليه أن يواجهها بقوة التقوى والتحكم في النفس، ويطلب الحل والفرج من الله. [١]
كل من يجتنب محارم الله خوفًا منه وطلبًا لرضاه، فإن الله سيفتح له أبواب الرزق والنّجاة من شدائد الحياة، ويُيسر له سعادة الدنيا والآخرة، فيمنحه زوجًا صالحًا أو مالًا طيبًا أو أي نعمة تُبهج حياته وتُطهّرها، وذلك من طريق لا يتوقعه ولا يحسب له حسابًا،[٢] وكما أن رحمة الله تأتي "مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" فكذلك قهره تعالى وعذابه يأتيان للإنسان من حيث لا يحتسب وهو ما تدل عليه الآية 2 من سورة الحشر، فرحمة الله وعقابه قد يأتيان بشكل غير متوقع وبطريقة لا يتصورها الإنسان. [٣]
كما أن الآيتين 2 و3 من سورة الطلاق تُعدّان من أكثر آيات القرآن الكريم بشارةً وأملاً، حيث تزيلان اليأس وتعدان جميع المتقين بالنجاة وحل المشاكل. [٤]
التقوى مع السعي
لا يمكن حمل معنى الآية على أن ينسى الإنسان السعي والاجتهاد في الحياة، ويقتصر على التقوى على أن التقوى هي الأساس في الرزق والفرج، بل التقوى لا تكون إلى مع السعي والاجتهاد، وقد ضمن الله تعالى أن يفتح أبواب الحلول للمتقين، وقد ورد في حديث أن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) – وهو عمر بن مسلم – غاب فترة، فسأل الإمام عنه، فقيل له: إنه ترك التجارة واتجه إلى العبادة، فقال الإمام: "وَيْحَه أمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَه"[٥]
ثم إنّ أثر التقوى ليس في الآخرة فقط، بل إن فتح أبواب الرزق للمتقين يكون في الدنيا أيضًا،[٦] فلا ينبغي للإنسان المتقي أن يظن أنه سيُحرم من حياته، لأن زمام كل الأمور بيد الله، فإذا سلك العبد طريق التقوى، فإن الله يُرتب أسباب الدنيا بحيث يرزقه من حيث لا يحتسب. [٧]
عندما نزلت الآية: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، أغلق قوم من أصحاب رسول الله (ص) أبواب بيوتهم، وتفرغوا للعبادة، وقالوا: "قد كُفينا"، فلما بلغ النبي (ص) خبرهم، أرسل إليهم يسألهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟"، فقالوا: "يا رسول الله تُكفّل لنا بأرزاقنا، فأقبلنا على العبادة"، فقال النبي (ص): "إِنَّه مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ""[٨]
التوكل على الله
قيل في تفسير الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾(الطلاق:۳) بأن مَن يتوكل على الله حقًّا يبتعد عن هوى النفس، ويقدِّم إرادة الله على إرادته، ويُفضِّل العمل الذي يريده الله على ما تهواه نفسه، ومثل هذا الإنسان يكون الله كافيه وكفيله، وحينئذٍ كل ما يشتهيه العبد يريده الله له، بشرط أن يكون موافقًا لفطرته وسعادته الحقيقيين. [٩]
والسبب في أن الله هو الحَسْبُ أنَّه سبحانه هو السبب الأول الذي تنتهي إليه كل الأسباب، فإذا أراد شيئًا، فإنه يُفعله دون تغيير أو تبديل، وأما الأسباب الأخرى التي يتوسل بها البشر، فهي تستمد سببيتها من الله، ولا تعمل إلا بقدر ما أذن لها، فالله وحده كافٍ لمَن يتوكل عليه، ولا شيء غيره كذلك. [١٠]
ليس التوكل معناه ترك السعي والاتكال على الأماني، بل هو بذل الجهد مع الاعتماد على الله. فالمتوكل يبذل قصارى جهده، ثم يفوِّض أمره إلى الله الذي يعلم كل احتياجاته، وهو الرحيم القادر على حل كل مشكلة، التوكل الحقيقي يجمع بين العمل الجاد والثقة بالله، وليس بينه وبين الكسل أو الهروب من المسؤوليات أي صلة. [١١]
المتوكل لا يدخل اليأس إلى قلبه أبدًا، ولا يشعر بالضعف أمام التحديات، وقد سأل النبي (ص) جبرئيل (ع): ما حقيقة التوكل؟ فأجاب: " العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يرج ولم يخف سوى الله ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكل".[١٢]
المصادر
- ↑ مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، طهران، دار الكتب الإسلامية، ۱۳۷۱ش، ج۲۴، ص۲۳۵.
- ↑ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، دفتر انتشارات إسلامي، الطبعة الخامسة، ۱۳۷۴ش، ج۱۹، ص۵۲۶.
- ↑ قراءتي، محسن، تفسير النور، طهران، مركز درسهائي از قرآن، ۱۳۸۸ش، ج۱۰، ص۱۰۳.
- ↑ مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، طهران، دار الكتب الإسلامية، ۱۳۷۱ش، ج۲۴، ص۲۳۶.
- ↑ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، ۱۴۰۷هـ، ج۵، ص۸۴.
- ↑ قراءتي، محسن، تفسير النور، طهران، مركز درسهائي از قرآن، ۱۳۸۸ش، ج۱۰، ص۱۰۴.
- ↑ قرشي بنابي، علي أكبر، تفسير أحسن الحديث، طهران، بنياد بعثت، ۱۳۷۵ش، ج۱۱، ص۲۱۰.
- ↑ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، ۱۴۰۷هـ، ج۵، ص۸۴.
- ↑ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، دفتر انتشارات إسلامي، الطبعة الخامسة، ۱۳۷۴ش، ج۱۹، ص۵۲۶.
- ↑ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، دفتر انتشارات إسلامي، الطبعة الخامسة، ۱۳۷۴ش، ج۱۹، ص527.
- ↑ مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، طهران، دار الكتب الإسلامية، ۱۳۷۱ش، ج۲۴، ص۲۳۸.
- ↑ ابن بابويه، محمد بن علي، معاني الأخبار، قم، دفتر انتشارات إسلامي، الطبعة الأولى، ۱۴۰۳هـ، ص۲۶۱.